الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهِدايةُ الله تعالى للإِنسان على أَربعةِ أَضرب:الأَوّل: الهِداية التي عَمَّ بها كُلَّ مكلَّفٍ من العَقْل والفِطْنَة والمَعارف الضروريّة، بل عمّ بها كلَّ شيء حَسَبَ احتمالِه، كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.الثانى: الهِداية التي جُعلت للنَّاسِ بدُعائه إِيّاهم على أَلْسِنَةِ الأَنبياءِ وإِنْزالِ القرآن ونحوِ ذلك، وهو المقصودُ بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.الثالث: التَّوفيقُ الذي يختصّبه من اهْتَدى، وهو المعنِىُّ بقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى} وقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.الرّابع: الهدايَةُ في الآخرة إِلى الجنَّة، وهو المعنىُّ بقوله: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذا}.وهذه الهداياتُ الأَربعُ مُتَرتِّبة فإِنَّ من لم تَحْصُلْ له الأُولَى لا تَحْصُلُ له الثانية، بل لا يَصِحُّ تكليفُه.ومن لم تَحْصُلْ له الثانيةُ لا تحصل له الثالثة والرابعةُ.والإِنسان لا يَقْدِرُ أَن يَهْدِىَ أَحدًا إِلا بالدُّعاءِ وتعريف الطُّرُق دون سائِر الهِدايات، وإِلى الأَوَّل أَشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وبقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَى داع، وإِلى سائر الهِدايات أَشار بقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}.وكُلّ هدايةٍ ذَكَرَ الله تعالى أَنَّه منَع الكافِرين والظَّالِمين فهى الهِدايَةُ الثالثة، التي هي التَّوْفيق الذي يختصّ به المهتدون، والرّابعة التي هي الثوابُ في الآخرة، وإِدخالُ الجنَّة المشار إِليها بقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلى قوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.وكلّ هِداية نَفاها عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعن البشر وذكر أَنَّهم غيرُ قادِرين عليها فهى ماعَدا المُخْتصّ به من الدّعاء وتعريفِ الطريق، وذلك كإِعطاءِ العَقْل والتوفيق، وإِدخال الجنَّة، وإِلى هذا المعنَى أَشار بقوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.وقوله: {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} أَى طالبُ الهُدَى ومُتَحرِّيه هو الذي يُوَفِّقه ويَهْديه إِلى طريق الجَنَّة لامَنْ ضادَّهُ فتحرَّى طريقَ الضَلالَة والكُفْر كقوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الكاذِبُ الكَفَّار هو الذي لا يَقْبلُ هِدايَتَه؛ فإِنَّ ذلك راجعٌ إِلى هذا وإِنْ لم يكن لفظُه موضوعًا لذلك، ومن لم يَقْبل هِدايَتَه لم يَهْدِه كقولك: من لم يَقْبل هَدِيَّتِى لم أُهْدِ لَهُ، ومن لم يقبل عَطِيَّتِى لم أُعْطِه، ومن رَغِب عنِّى لم أَرْغَبْ فيه.وقوله: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى} فقوله: لا يَهِدِّىِ أَى لا يَهْدِى غَيْره ولكن يُهْدَى، أَى لا يعلم شيئًا ولا يَغْرِفُ.وقرئ إِلاَّ أَن يُهَدَّى أَى لا هِدايةَ له ولو هُدىَ أَيضًا لم يَهْتَد لأَنَّها مَواتٌ من حِجَارة ونحوِها.وظاهرُ اللَّفظ أَنَّه إِذا هُدِىَ اهْتَدَى لإِخْراج الكلام على أَنها أَمْثالُكم كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} وإِنَّما هي مَواتٌ، وقد قال في موضِع آخَرَ: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}.وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} وقوله: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِشارةٌ إِلى ما عَرَّفَ من طريق الخَيْر والشرّ، وطريقِ الثَّواب والعِقاب، والعَقْل والشَّرْع.وقولُه: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إِشارةٌ إِلى التَّوْفيق المُلْقَى في الرُّوْع فيما يَتَحرّاه الإِنسانُ، وإِياه عَنَى بقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى}.ولما كانت الهِدايةُ والتَّعليم يَقْتَضِى شيئين: تعريفًا من المُعَرِّف وتَعَرُّفًا من المُعَرَّف، وبهما يتمّ الهدايةُ والتَّعلُّم، فإِنَّه متى حَصَل البَذْلُ من الهادى والمعلِّم ولم يَحْصُل القبولُ صَحَّ أَنْ يُقال لم يَهْدِ ولم يُعَلِّم اعتبارًا بعدَم القَبُول، وصَحَّ أَنْ يقال: هَدَى وعَلَّم اعتبارًا بَبذْلِه، فإِذا كان كذلك صحّ أَن يُقالَ إِنَّ الله لمِ يَهْدِ الكافرين والفاسقين من حيثُ إِنَّه لم يَحْصُل القَبولُ الذي هو تَمامُ الهِداية والتَّعلِيم.وصحّ أَنْ يُقال قد هَداهم وعَلَّمَهُم من حيث إِنَّه حَصَل البَذْلُ الذي هو مَبْدأُ الهِداية، فعلى الاعتبار الأَوّل يصحّ أَن يُحْمَلَ قوله: {والله لا يهدى القومَ الكافِرين} و{الظالمين} وعلى الثانى قولُه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} والأَوْلَى حيثُ لم يحصُلِ القَبُول أَن يُقَيَّد فيقالُ هَدَاهُ اللهُ فلم يَهْتَدِ وقوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} وهم الذين قَبِلُوا هُدَاهُ فاهْتَدَوْا به.وقولُه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقد قيلَ عنى به الهِدايَة العامَّة، التي هي العقلُ وسنّة الأَنبياءِ، وأُمِرْنا بأَن نُقول ولكن بأَلْسِنَتِنا، وإِن كان قد فَعَلَ، ليُعْطِيَنا ثَوابًا، كما أُمِرْنا بأَن نَقُولَ: الَّلهُمَّ صَلِّ على محمّد وإِنْ كان قد صَلَّى الله عليه بَقولُه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.وقيل إِنَّ ذلك دُعاءٌ بحفْظِنا عن اسْتِغْواء الغُواةِ واسْتِهْواء الشَّهَوات.وقيل: هو سُؤالٌ للتَّوْفيق المَوْعُود في قوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى}.والهِدايةُ والهُدَى في مَوْضُوع الُّلغة واحدٌ كما تقدَّم، لكن قد خَصَّ الله لَفْظَ الهُدَى.بما تَوَلاَّه وأَعْطاه، واخْتَصَّ هو به دون ما هو إِلى الإِنسان، نحو: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وغيرها.والاهْتِداءُ يختصُّ بما يَتَحرّاه الإِنسانُ على طريقِ الاختيارِ إِمّا في الًامور الدنيويّة أَو الأُخرويّة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا} ويُقال ذلك لِطَلَب الهِدايَة نحو قوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ولِتَحَرِّى الهِداية نحو قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.ويُقالُ الْمُهْتَدِى لِمَنْ يَقْتدى بِعَالِم نَحْو: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} تنبيهًا أَنَّهم لا يعلمون بأَنْفُسِهم ولا يَقتَدون بعالِم.وقولُه: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فالاهْتِداءُ هاهنا يَتَناول وجُوه الاهتداءِ من طَلَبِ الهِداية ومن الاقْتِداءِ ومن تَحَرِّيها.وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} معناه ثمّ أَدام طَلَبَ الهِداية ولم يَفْتُرْ عن تَحَرِّيه ولم يرجع إِلى المعصية.وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} أَى الذين تَحَرُّوا الهداية وقَبِلُوها وعملوا بها، وكذلك قوله: {وَقَالُواْ يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} إِلى قوله: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}.والهدْىُ مختصٌّ بما يُهْدَى إِلى البَيْت، قال الأَخفش: واحِدُه هَدِيَّةٌ، قال: ويُقال للأُنْثَىَ هَدْىٌ كأَنَّه مصدرٌ وُصف به، قال الله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ}.والهَدِيَّة مختصَّه بالُّلطَفِ الذي يُهْدَى بعضُنا إِلى بَعْض، قال تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ}.والمِهْدَى: الطبقُ الذي يُهْدَى عليه.والمِهْداءُ من يُكْثِر إِهداءَ الهَدِيَّة، قال: والهَدِىُّ يُقال في الهَدْىِ وفى العَرُوس.يقال: هَدَيْتُ العَرُوسَ إِلى زَوْجِها هِداءً.وما أَحْسَنَ هِدْيَةَ فُلانٍ وهَدْيَهُ، أَى طريقتَه.وفلانٌ يُهادِى بين اثنَيْن: إِذا مَشَى بينهما مُعْتَمدًا عليهما.وتَهادَت المرأَةُ: إِذا مَشَتْ مَشْىَ الهَدْى. اهـ.قال مجد الدين الفيروزابادي:
|